التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تجربتي في معرض أندلسيات

يُقال إنه لكي تصل لا بُد أن تحمل في قلبك إيمانًا كبيراً، والفكرة إنما تقوى إذا قوي الإيمان بها. ‏بدايةً، لم أكن أحسن حالاً من طلاب السنة الأولى الذين ولجوا إلى ساح الجامعة مشتتي الذهن، ‏حائرين، ولا يملكون أدنى فكرة عن الحياة الجامعية سوى أنها ملاذ المثقفين ومعقل أهل العلم.
كانت لدي طاقات كثيرة تنتظر مني أن أصبُها في أعمال ومبادرات عديدة، وكانت لدي الأفكار ‏التي تشكّل وقوداً لتلك الطاقات. كنتُ كلما هممتُ بالبدء بفكرة جديدة، وجدتني أغرق في بحار ‏التنسيقات الإدارية الهامة والبيروقراطيات التي لم يكن لدي أدنى علمٍ بها، وتخبّطتُ بمطبات الجهد ‏والالتزام الكبيرين الذان يلزماني، فكنت سرعان ما أتنازل عن أفكاري تلك لقلة حيلتي. ظللت على ‏هذه الحال حتى جاءت الفترة التي انكببتُ فيها مجدداً على قراءة تاريخ الأندلس، فعكفت على ‏القراءة والمشاهدة والتأمل، وكنتُ كلما جالت في نفسي خاطرة، أسرعت إلى زميلاتي في القسم أو ‏صديقاتي في السكن الجامعي وقصصتُ عليهنّ موقفاً ما أو عبرة مستخلصة من ذلك التاريخ الثري ‏بالعبر، وهذا مما لا يغيب عن بال مطلع على التاريخ أو قارئٍ للأدب العربي أو مهتمٍ ‏بالاختراعات والنظريات التي أنتجها العرب، فجلُّها احترافُ علماء الأندلس وأدبائهم، عامتهم ‏وخاصتهم، لا تكاد تأفل عنهم شمس المعارف، ولا ينسدل عليهم ستار الجهل حتى تفرقوا.
ومما ‏صدمني آنذاك، هو قلة معرفتهن، أي صديقاتي، بالتاريخ الأندلسي التليد، فكثيراً ما كنتُ أفاجأ ‏بأسئلة من مثل: ما هي الأندلس؟ أين تقع؟ أو من هو الأمير الفلاني؟ عمّ تتحدثين يا بنت؟ فأتمالك ‏رأسي بين يديّ ألاّ يقع من هول الصدمات، ومن هنا أخذتُ على نفسي عهداً بأن أبادر بإحياء حقبة ‏من أهم الحقب التي عاصرتها الأندلس حتى ازدهرت حضارياً وثقافياً لتصير حُلم العشاق وبيتاً من ‏بيوت الشعراء وأغنية من أغنيات فيروز‎.‎
فكرتُ بإعداد معرضٍ أندلسي يخدم تطلعاتي ويعين على إيصال رسالتي التي مفادها أنّ في ‏تاريخنا العربي والإسلامي ما إذا قرأناه وتأملناه واستنبطنا منه العِبر لقويَت به عزائمنا وصنعنا به ‏مستقبلنا ومستقبل أوطاننا، وأهم من ذلك: لعرفنا منه أخطاء من خلفونا، فحضارة الأندلس لم تبرح ‏أن تكون الشعلة التي تنير دربنا نحو نهضة بلادنا فلسطين. ولكن، هذه المرة لم أعمد إلى تكرار ‏أخطائي السابقة عند البدء بأي مشروع، فعمدتُ إلى البحث عن جهة أو جمعية تتبنى فكرتي هذه ‏وتمُدني بالموارد البشرية والمالية اللازمة. اتجهتُ لمراسلة إحدى الصفحات الطلابية المعروفة ‏على الفيسبوك والتي تمثل مهندسي الجامعة في شأني هذا، فقاموا بربطي بالجمعية الطلابية ‏المعروفة ب (مهندسون بلا حدود). وبعد اللقاء التعارفي الأول، صممنا على إقامة المعرض في ‏مطلع الفصل الدراسي الأول للعام 2015‏.
في الحديث عن تجهيزات المعرض المنشود، كنتُ أذهل لِما رأيتُ من الطاقات والقدرات الشبابية ‏الفذة أثناء إدارة أو تنسيق العمل في المعرض. الجميع منكبٌّ على العمل بحماسة، الأفكار تتوالد ‏تباعاً من الجميع، والمتطوعون من الفرق الطلابية لا يفتأون يزودوننا بالأشعار والأغنيات ‏والمعلومات الثقافية الخاصة بالأندلس. ولا يغيب عن بالي مسؤولو جمعية مهندسون بلا حدود ‏الذين تفانوا في إيجاد الجهات الممولة للمعرض، بالإضافة إلى الجهات الإعلامية المعروفة. ‏باختصار، كان عملاً جباراً أثمر معرضاً من أفضل المعارض التي أقيمت في الجامعة بشهادة ‏الحضور بفضل الله.

سعينا من خلال المعرض إلى توفير جوٍ أندلسي للزوار من خلال عرض ‏اللوحات الفنية التي كانت نتاج أنامل طلاب من الفنون الجميلة، بالإضافة إلى مجسّماتٍ تجسّد ‏الاختراعات الأندلسية كالساعة المائية والإسطرلاب والنظارات وغيرها -وكانت هذه المجسمات ‏ثمرة جهد المتطوعين أيضاً. كما كانت هناك زاوية طبيّة مزوّدة بالأعشاب الطبية والعطرية ‏المتداولة في أيامنا هذه وموضحةً فوائدها الجمّة في تغذية وتطبيب الأجساد، وإرواء الظمآنين ‏بالأشربة المستخلصة من تلك الأعشاب، وتضمنت كذلك فاكهة الرمان التي ضُيِّفت للحضور. ‏إضافة لما سبق، ازدان المعرض بالمجسمات المعمارية المميزة التي تحاكي جمالية حضارة ‏الأندلس المعمارية والتي عكف على تصميمها طلاب الهندسة المعمارية والتخطيط العمراني، ‏وينتهي المعرض بمسابقةٍ تضم أسئلةً أندلسية على الحاسوب كانت قد برمجتها زميلة في قسم ‏أنظمة المعلومات المحوسبة.‏ 

كل ما سبق تم عرضه في تسلسلٍ زمني على خط سير الأحداث التي حصرناها من فترة حياة عبد ‏الرحمن الداخل إلى سقوط دويلات ملوك الطوائف والمرابطين والموحدين. تخلل المعرض أيضاً ‏نقاشات فكرية وثقافية في قلب المعرض، في الحقيقة كانت هذه النقاشات من أكثر ما أثلج صدري ‏وروّى ظمئي، عدى عن كون المعرض نتاج سواعد طلاب ومتطوعين من تخصصات دراسية ‏عدة بدءاً بالهندسية والتكنولوجيا ومروراً بالعلوم وانتهاءً بتخصصات الآداب، هذا التنوع في ‏التخصصات أدى إلى تنوع الأفكار والأساليب وكان عاملاً على إنجاح المعرض. ومن الفقرات ‏الأخرى التي نظّمتها الجمعية ضمن أسبوع المهرجان الأندلسي: مناقشة رواية ثلاثية غرناطة ‏ومحاضرة فكرية حول العقل الطبي في العصر الأندلسي‎.‎
هذه التجربة الغنية كانت كفيلة بإكسابي خبرة جيدة في مجال تنظيم الأحداث‎ ‎وعززت قدرتي على ‏التواصل داخليا مع فريق العمل خاصتي وخارجيا مع الفرق الأخرى ومسؤولي المعرض، حيث ‏عملتُ ضمن المجلس الإداري الخاص بالمعرض وترأستُ فريق الزاوية التاريخية. أيضا كوّنت ‏عددا لا بأس به من العلاقات والصداقات أثناء العمل. المعرض الآن أصبح متنقلاً وقد تمت إقامته ‏في مناطق ومؤسسات عدة. ومن هنا أقول إنه لا بُد لأي طالب أن يصقل مهاراته وينمي الجوانب ‏الإدارية والتطوعية في ذاته من خلال المشاركة أو اقتراح الأفكار التي يؤمن بها إيمانا جما حتى ‏يوصل أفكاره ورسالته للجميع، ووجود جمعيات طلابية مثل (مهندسون بلا حدود) كفيلٌ بأن يكون ‏عونًا للفرد على إنجاز عملٍ يُشار إليه بالبنان وتأمين ما يجب من مورد بشري أو إعلامي أو مالي‎.‎

في التالي مرفق صور إضافية للمعرض:













تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

مسيرة العودة الكبرى .. أيقونات خالدة

  منذ يوم الأرض الفلسطيني ومسيرات العودة الكُبرى مُستمرة على الحدود الشرقية لقطاع غزة، لم يكل النّاس من التظاهر سلميًا لأجل المطالبة بحق العودة إلى فلسطين المُحتلة، في كل يوم جمعة يتجمع الغزيّون العُزّل أمام الجُند المدججين بالسلاح خلف عدسات القنص المثبتة فوق أسلحتهم، حاملين أحلامهم وتطلعاتهم بالعودة إلى فلسطين، متظاهرين عُزّل إلا من إرادتهم التي لا تموت، وحقهم الذي لا يُنسى مع الوقت، ومُغيرين بذلك صورة غزة في ذاكرة العالم الذي اعتادها - بعد مقاومتها لثلاثة حروب شنّتها قوات الاحتلال الصهيوني بحقها- عنوانًا للمقاومة المسلحة دون غيرها من أشكال النضال. فكانت المسيرات في بدايتها محط أنظار وترقّب الكثير، وتساءل الجميع عن غزة: ماذا تُخبئ في جعبتها هذه المرّة ؟ تركت هذه المسيرات الكثير من القصص والتفاصيل لتُروى، كان الدم الفلسطيني شاهدًا على جرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق المتظاهرين فيها، حيث قتل خلالها قناصو الاحتلال حتى الآن 174 فلسطينياً، وأصابت رصاصاتهم المتفجرة وقنابل غازهم المسيل للدموع حوالي 19,600 مُتظاهراً ومتظاهرة. أستعرض في هذه التدوينة التي أعددتها ورفيقي  ياسر عاش

تشفير البيانات: هل يطلع أحد على مراسلاتك؟

اسطرلاب |  هل تصوّرت يوماً أنّك لن تتمكن من إجراء محادثة مع صديقك أو أحد أفراد عائلتك دون أن يستمع لمكالمتك هذه جيرانك في الحي، أو زملاؤك في العمل، أو أحد أقربائك؟ أو أنّ محاولتك لإيصال رسالة خاصة لشخصٍ ما قد تصل ليد العشرات قبل أن يقرأها الشخص المطلوب؟   تخيّل انّ مصيرك، وفي ظروفِ حربٍ صعبةٍ مرهونٌ ببرقيةٍ يرسلها قائد الجيش في منطقتك إلى الجنود في منطقةٍ أخرى بسلام دون أن يعترضها الجواسيس والمتربصون! حسناً، لقد حصل هذا بالفعل في الحرب العالمية الثانية، حيث كان الألمان يتواصلون مع جنودهم ويرسلون الأوامر إليهم عبر آلة تشفير تسمى إنيجما Enigma. كانت الإنيجما سلاح الألمان وترسهم المتين الذي يتواصلون عبره مع جندهم ويرسلون إليهم أوامرهم وخططهم لمدة سنتين، ورغم وقوع بعض هذه الرسائل المشفرة بأيدِ الحلفاء غير أنهم لم يتمكنوا من حل شيفرتها وفهم محتواها. آلة إنيجما Enigma إنيجما – سر الألمان في الحرب العالمية الثانية هل يمكن للحلفاء فك تشفير الرسائل بمجرد حصولهم على الآلة؟ في الواقع، استطاع الحلفاء الحصول على هذه الآلة، غير أنهم لم يتمكنوا من فك شيفرتها، وذلك لأن إعداداتها تتغير

الروبوت جاسوساً: هل تحمي نفسك من الذكاء الصناعي؟

اسطرلاب  |  العالم يتغير سريعاً جداً، وما كان مستحيلاً بالأمس أصبح اليوم معقولاً بل وعادياً. فمن كان يتخيـ ل وجود حاسوب ذكي يستطيع تحديد نوع جنسك من خلال ابتسامتك؟ أو التعرف على وجهك من بين مئات الوجوه؟ أو حتى بناء تصوّرٍ كامل عن شخصيتك واهتماماتك من خلال تصرفاتك وأدائك على الإنترنت؟ هل كنت تعتقد قبل عشرين سنة بإمكانية رفع ملف تحرير النصوص وحفظه على الإنترنت من بيتك لتقوم بتحميله في المقهى أو تحريره مباشرة أثناء مشاركته مع زميلك؟ إنها ثورة التكنولوجيا! الموجة التي يحب الجميع أن يركبها لما تقدمه لهم من امتيازات لم توجد في أي عصر سابق. ولكن، كم ستخدمنا هذه الامتيازات قبل أن تضعنا في اختيار صعب بين خصوصيتنا وبين هذه الإمكانيات الحديثة؟ هل تظن أن في الأمر مبالغة؟ اقرأ واحكم بنفسك!   حماية الهوية الشخصية أصبح كل من الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence وتعلم الآلة Machine Learning موضوعات هامة وساخنة في القطاع التكنولوجي، حيث يتم متابعة ومناقشة القضايا المتعلقة بها بشكل يومي. ولكن، كيف تؤثر هذه التكنولوجيا في أماننا على الانترنت؟ بداية، لا بد من التمييز بين ت